الأربعاء، 7 أكتوبر 2009

الدولة الوظيفية

يرتبط مفهوم الدولة الوظيفية بمفهوم الجماعة الوظيفية، والدولة الوظيفية هي الدولة التي تؤسس أو يُعاد صياغة توجُّهها أو توجُّه نخبتها الحاكمة لتضطلع بوظيفة معينة ويصبح جوهرها هو هذه الوظيفة. فالدولة الوظيفية هي إعـادة إنتاج لدور الجماعة الوظيفية في العصر الحديث.

ونحن نذهب إلى أن الدولة العصرية الحديثة بعد تَغوُّلها وبعد تَصاعُد قوة مؤسساتها الأمنية وقطاع اللذة، تُحوسل كل المواطنين، بحيث يصبحون شيئاً يشبه أعضاء الجماعة الوظيفية، وظيفة ُتؤدَى ودوراً يُلعَب بدلاً من أن يكونوا بشراً متعددي الأبعاد، يؤمنون بمنظومة أخلاقية ويشعرون بالحرية والمسئولية.

التحديث والحداثة وما بعد الحداثة

«التحديث والحداثة وما بعد الحداثة» هي مراحل ثلاثة في متتالية العلمانية. فالعلمانية ليست جوهراً ثابتاً يتبدَّى كله في عالم التاريخ دفعة واحدة وإنما هي متتالية تتحقق حلقاتها تدريجياً عَبْر الزمان، فمن عالم الاقتصاد إلى عالم السياسة إلى عالم الوجدان والأحلام ثم أخيراً عالم السلوك في الحياة العامة والخاصة. وحينما تسري قوانين العلمانية الشاملة على مجال من مجالات النشاط الإنساني، فإن هذا المجال ينفصل عن المعيارية والغائية الدينية والأخلاقية والإنسـانية فتختفي منه المرجعية الإنسانية ويصبـح مرجعية ذاته ويسـتمد معياريته من شيئيته. فتصبح المعايير في المجال الاقتصادي اقتصادية، وفي المجال السياسي سياسية، وفي المجال الجمالي جمالية، وهذا ما يُسمَّى «التحييد» الذي يتصاعد إلى أن يصبح العالم بأسره مجالات محايدة لا يربطها رابط وتختفي أية معيارية إنسانية عامة، وتتآكل كل القيم والمفاهيم الكلية وتسود النسبية التي تنكر على الإنسان المقدرة على تجاوز صيرورة عالم المادة والحركة فيسقط في قبضتها تماماً وتسقط فكرة الحقيقة والحق والخير والجمال والكل، بل فكرة الطبيعة (البشرية ثم المادية) (أي تسقط كل المنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية) فهي عملية تفكيك كاملة.

وهـذا الانتقـال من عالم متماسـك فيـه معيارية (حتى لو كانت مادية)، إلى عالم مفكَّك بلا معيارية، هو الانتقال من عصر التحديث (والحداثة) إلى عصر ما بعد الحداثة.

السوبرمان والسبمان

يأخذ الإنسان الطبيعي/المادي شكلين:

أ) السوبرمان superman (الإنسان الأعلى) الإمبريالي الذي يُجسِّد الطبيعة/المادة ويولِّد معياريته من ذاته، ولا يؤمن بأية قيم خارجة عنها، ولا يؤمن إلا بفلسفة القوة كقيمة وحيدة مطلقة، وهو إنسان إمبريالي يرى أن من حقه أن يُوظِّف الآخرين لحسابه ولتحقيق مصالحه باعتباره الأقوى المنتصر (الداروينية الاجتماعية).

ب) السبمان subman (دون الإنسان) الذي يذعن للطبيعة/ المادة ويتكيف مع المعيارية التي تُولَد من داخلها (البرجماتية). وقد عبَّر هذا الإنسان المُتكيِّف عن نفسه في عدة أشكال: الإنسان البرجماتي ـ الإنسان المدجَّن ـ الإنسان المرشَّد ـ الإنسان المتشيئ ـ الإنسان ذو البُعد الواحد الذي يمكن توظيفه وحوسلته بسهولة ويُسر. ولكن سمة السبمان الأساسية أنه إنسان وظيفي يُعرَّف في ضوء وظائفه الاقتصادية والبيولوجية، فهو إما إنسان اقتصادي أو إنسان جسماني أو جنسي أو خليط منهما.

الانتقال من العلمانية الجزئية إلى العلمانية الشاملة

يتم الانتقال من العلمانية الجزئية إلى العلمانية الشاملة من خلال عمليات تاريخية طويلة مركَّبة، تأخذ شكل متتالية تاريخية متعددة الحلقات، بعضها واضح ومُحدَّد والبعض الآخر يَصعُب إدراكه وتحديده. ولكن جوهر هذه العملية هو تصاعُد الترشيد المادي بحيث يصبح كل مجال من مجالات الحياة خاضعاً للقوانين الكامنة فيه يستمد معياريته من ذاته (أي أن تصاعُد الترشيد هو أيضاً تصاعُد معدلات الحلول) فيحكم على المجال الاقتصادي بمعايير اقتصادية، وعلى المجال السياسي بمعايير سياسية، وعلى المجال الديني بمعايير دينية وهكذا، ويصبح كل مجال مكتفياً بذاته، ومرجعية ذاته، فهو متماسك بشكل عضوي لا يعرف الثنائيات ولا الثغرات والانقطاع (أي أنه يكتسب سمات الطبيـعة/المادة)، منعزل عما سواه من المجالات، لا يربطه رابط بها. وينتـج عن هذه العملية الانفصال التدريجي لمختلف مجالات الحيـاة عن المنظومات الدينيـة والأخـلاقية وعن الغائيات الإنسانية. وهكذا تتفتَّت مجالات الحياة الإنسـانية وتتحـوَّل إلى مجالات غير متجانسة غير مترابطة، وحينما تواجه الذات الإنسانية العالم تجده منفصلاً عنها، غريباً عليها، مفتتاً، مجرد مادة نسبية محايدة خاضعة لحركة المادة وحسب.

الإمبريالية (الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية)

«الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية» هي النتيجة الحتمية للعلمانية الشاملة التي تنزع القداسة عن العالم وتفصله عن كل القيم الأخلاقية والإنسانية، وتُحوسل الطبيعة والإنسان وتحاول التحكم فيهما والهيمنة عليهما لصالح الأقوى (السوبرمان) أو لصالح أي مطلق علماني (الدولة ـ العرْق الأرقى... إلخ). وقد قامت المنظومة العلمانية الشاملة (في الغرب) بترشيد الداخل الغربي في الإطار المادي ودجَّنته وحوَّلته إلى مادة استعمالية، ثم جيَّشت الجيوش وهيمنت على العالم بأسره (الطبيعة والإنسان ـ المصادر الطبيعية والبشرية) وحوَّلته هو الآخر إلى مادة استعمالية لصالح الإنسان الغربي وحده (باعتباره العنصر الأرقى والأقوى). فالعلمانية الشاملة والإمبريالية وجهان لعملة واحدة.

المطلق العلماني

«المطلق» هو المركز الذي يتجاوز كل الأجزاء ولا يتجاوزه شيء وهو المبدأ الواحد والركيزة أو المرجعية النهائية. والأنساق الفكرية العلمانية الشاملة قد تنكر أية نقطة مرجعية متجاوزة لهذه الدنيا، إلا أنها تستند إلى ركيزة أساسية ومرجعية نهائية كامنة في المادة (الطبيعة أو الإنسان أو التاريخ)، ولذا فهي مرجعية نهائية مادية تشكل مطلق هذا النموذج، فهي من ثم «مطلق علماني». وهذا المطلق يمكن أن يتخذ عدة أسماء ويتبدَّى من خلال عدة أشكال (اليد الخفية وآليات السوق عند آدم سميث ـ وسائل الإنتاج عند ماركس ـ الجنس عند فرويد ـ الروح المطلقة عند هيجل ـ قانون البقاء عند داروين ـ إرادة القوة عند نيتشه ـ التقدم اللانهائي في الحضارة العلمانية ـ عبء الرجل الأبيض في التشكيل الاستعماري الغربي ـ روح التاريخ عند الهيجليين). وكل هذه المفاهيم إن هي إلا تنويع سطحي على مفهوم الطبيعة/المادة.

وقد بدأت المنظومة العلمانية بأن جعلت الإنسان المطلق العلماني. ولكن مركز المطلقية انتقل، وبالتدريج، إلى عالم الأشـياء (الطبيعة/المادة ـ الدولة ـ السـلعة ـ وسـائل الإنتاج... إلـخ). ومن ثم أصبحت كل الأمور، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، طبيعية/مادية لا قداسة لها، وابتلعت الواحدية المادية الإنسان تماماً.

العلمانية الشاملة

«العلمانية الشاملة» التي يمكن أن نسميها أيضاً «العلمانية الطبيعية/المادية» أو «العلمانية العدمية» هي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، لا تفصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وحسب، وإنما تفصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتـم نزع القداسـة تماماً عن العالم (الإنسان والطبيعة). وهي شاملة، فهي تشمل كلاً من الحياة العامة والخاصة، والإجراءات والمرجعية. والعالم، من منظور العلمانية الشاملة (شأنها في هذا شأن الحلولية الكمونية المادية)، مكتف بذاته وهو مرجعية ذاته، عالم متماسك بشكل عضوي لا تتخلله أية ثغرات ولا يعرف الانقطاع أو الثنائيات، خاضع لقوانين واحدة كامنة فيه، لا تُفرِّق بين الإنسان وغيره من الكائنات، فهو عالم يتسم بالواحدية المادية الصارمة (وهذه هي كلها صفات الطبيعة/المادة). والمبدأ الواحد كامن (حال) في العالم لا يتجاوزه ويُسمَّى «قانون الحركة» أو «القانون الطبيعي/المادي»، الأمر الذي يعني سيادة الواحدية المادية وأن كل الأمور، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، مادية نسبية متساوية لا قداسة لها، وأنه يمكن معرفة العالم بأسره (الإنسان والطبيعة) من خلال الحواس الخمس. والعلمانية الشاملة بطبيعة الحال لا تؤمن بأية مطلقات أو كليات، ولعل المنظومة الداروينية الصراعية هي أكثر المنظومات اقتراباً من نموذج العلمانية الشاملة.

العلمانية الجزئية

«العلمانية الجزئية» هي رؤية جزئية للواقع تنطبق على عالم السياسة وربما على عالم الاقتصاد، وهو ما يُعبَّر عنه بفصل الكنيسة عن الدولة. والكنيسة هنا تعني «المؤسسات الكهنوتية»، أما الدولة فهي تعني «مؤسسات الدولة المختلفة». ويُوسِّع البعض هذا التعريف ليعني فصل الدين (والدين وحده) عن الدولة بمعنى الحياة العامة في بعض نواحيها. ونحن نُسمِّي هذه الصيغة «علمانية جزئية» لسببين:

1 ـ الدولة التي يشير لها التعريف هي دولة القرن التاسع عشر التي لم تكن قد تغوَّلت بعد ولم تكن قد طوَّرت مؤسساتها التربوية والأمنية المختلفة التي تُمكِّنها من محاصرة المواطن أينما كان، ولذا تركت له رقعة واسعة يتحرك فيها ويديرها حسب منظومته القيمية.

2 ـ تلزم العلمانية الجزئية الصمت تماماً بشأن المرجعية الأخلاقية والأبعاد الكلية والنهائية للمجتمع ولسلوك الفرد في حياته الخاصة وفي كثير من جوانب حياته العامة.

كل هذا يعني أن العلمانية الجزئية تترك حيزاً واسعاً للقيم الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية مادامت لا تتدخل في عالم السياسة (بالمعنى المحدد)، أي أنها صيغة لا تسقط في النسبية أو العدمية. وهذه الصيغة هي الشائعة بين عامة الناس في الشرق والغرب، بل بين الكثير من المفكرين العلمانيين. ويمكن تسميتها «العلمانية الأخلاقية أو الإنسانية» (وهناك بعض المفكرين الإسلاميين يرون أن هذه العلمانية الجزئية الأخلاقية لا تتناقض بأية حال مع المنظومة الدينية الإسلامية وأنهما يمكنهما التجاور والتعايش بل التكامل).

الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني

تفرعت عن هذا الإنسان الطبيعي أنماط إنسانية أخرى قد تختلف في مضمونها عن الإنسان الطبيعي أو عن بعضها البعض، ولكنها واحدة في بنيتها وفي أحاديتها وفي تجردها من الإنساني والتاريخي وفي أنها تُعرَّف في إطار ما هو مادي وكامن فيها. وأهم هذه الأنماط الإنسان الاقتصادي، وهو إنسان متحرر تماماً من القيمة، أحادي البُعْد، دوافعه الأساسية اقتصادية بسيطة، وما يحركه هو القوانين الاقتصادية وحتمياتها، إنسان لا ينتمي إلى حضارة بعينها وإنما ينتمي إلى عالم الاقتصاد العام. وهو لا يعرف الخصوصية ولا الكرامة ولا الأهداف السامية التي تتجاوز الحركة الاقتصادية، وهو يجيد نشاطاً واحداً هو البيع والشراء ومراكمة الأموال وإنفاقها.

وثمة نمط آخر هو الإنسان الجنسي أو الجسماني الذي يشبه الانسان الاقتصادي تماماً في بنيته، فهو أيضاً أحادي البُعْد، خاضع للحتميات الغريزية متجرد من القيمة لا يتجاوز قوانين الحركة. إن الإنسان الطبيعي هو ذاته الإنسان الاقتصادي، وهو ذاته الإنسان الجسماني، قد تختلف المضامين لكن البنية واحدة. ولو أننا وضعنا كلمة «اقتصاد» أو كلمة «جنس» محل كلمة «طبيعة» لظل كل شيء على ما هو عليه ولما غيَّرنا شيئاً في خطابنا.

المبدأ الواحد

«المبدأ الواحد» هو مصدر وحدة الكون وتماسُكه، وهو القوة الدافعة له التي تضبط وجوده، وهو قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهذه القوة هي النظام الضروري والكلي للأشياء والذي يمكن تفسير كل شيء من خلاله. وتختلف المذاهب الفلسفية والدينية والفكرية في رؤيتها لطبيعة المبدأ الواحد وعلاقته بالعالم (الطبيعة والإنسان)، إذ ترى بعض المذاهب أنه قوة روحية خالصة (الإله) متجاوزة للإنسان والطبيعة والتاريخ منزَّهة عنها، مفارقة لها، بينما يراه البعض الآخر باعتباره قـوة مادية خالصـة (قوانين الحركة) كامنة (حالة) في المادة، جزء عضوي لا يتجزأ منها ولا وجود له خارجها. كما تراه بعض المذاهب باعتباره قوة روحية اسماً وشكلاً ومادية فعلاً (روح الشعب ـ إرادة الجماهير ـ العقل المطلق ـ الحتمية التاريخية) كما هو الحال في المنظومات الهيجلية (وضمنها الماركسية). ونحن نذهب إلى أن المبدأ الواحد من منظور العلمانية الشاملة هو الطبيعة/المادة أو بعض التنويعات عليها.

المجرد والعيني (أو المتعين)

«التجريد» هو عزل صفة أو علاقة عزلاً ذهنياً، وقصر الاعتبـار عليها، مثلما يُجرَّد امتداد الجسم من كتلته، مع أن هاتين الصفتين لا تنفكان عن الجسم في الوجود الخارجي. وتتضمن أبسط العمليات الإدراكية قدراً من التجريد، فالعقل لا يعكس الواقع بشكل مباشر آلي. وحينما يتم التجريد بشكل واع فهو يهدف إلى توفير إمكانية النظر إلى ما يَتصوَّر المرء أنه أهم سمات ظاهرة ما وحدودها في صورتها النقية البحتة (جوهرها)، دون أن يراعي مختلف التأثيرات الثانوية والجانبية والعرضية. وهي عملية تحديد وفَصْل ـ أي تعيين حدود ـ يتم من خلالها اسـتبعاد جزئيات وتفاصيل وصـولاً إلى الظاهرة التي يحاول العقل فهمهـا، فالتجريد من ثم إستراتيجية تحليلية أساسية. وهو مسألة أساسية في عملية صياغة النماذج وفي عملية استخدامها واكتشافها.

و«العيني» هو «الشخصي»، وهو ما يُدرَك بالحواس، ولذلك نُسب إلى العين، وهو أهم ما يميِّز أي شيء نوعي أو فردي. ويُستخدَم المصطلح ليشير إلى حادثة مفردة أو موضوع خاص، فيمكن أن نتحدث عن «تفاحة حمراء»، وهذا شيء عيني، أما «الفاكهة» فهي شيء مجرد، أي أن «المعيَّن» أو «المتعين» أو «العيني» يقابل «المجرد» أو «المحسوس».

النموذج

«النموذج» هو بنية تصوُّرية يجردها عقل الإنسان من كم هائل من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، فهو يستبعد بعضها باعتبارها غير دالة (من وجهة نظره) ويستبقى البعض الآخر، ثم يربط بينها وينسقها تنسيقاً خاصاً بحيث تصبح (حَسْب تصوُّره) مُماثلة في تناسقها وترابطها للعلاقات الموجودة بين عناصر الواقع.

كل هذا يعني أن عقل الإنسان ليس خاملاً يتلقى الواقع بشكل سلبي ويسجله بشكل مباشر، وإنما هو مبدع وخلاق يعيد صياغة الواقع من خلال النماذج المعرفية والإدراكية أثناء أبسط عمليات الإدراك، أي أن استخدام النماذج مسألة حتمية تدخل في صميم عملية الإدراك، ومن ثم فعملية الإدراك هي ذاتها عملية تفسير. ورغم أن النموذج بنية تصوُّرية، فإن من الممكن اختباره لاكتشاف مقدرته التفسيرية والتصنيفية.